هذا الموقع عربون وفاء للاديب محمد زهير الباشا الذي أهدى الأدب المهجري دراسة بعنوان: شربل بعيني ملاح يبحث عن الله

محمد زهير الباشا يعيدنا الى بلاط سيف الدولة

بقلم شربل بعيني
تحس وأنت تقرأ دراسة الأديب الناقد محمد زهير الباشا "المتنبي يجلو مقلتيْ نسر" انك في بلاط "سيف الدولة"، وان جميع الشعراء والنقّاد، بمن فيهم "ابو فراس الحمداني"، قد بايعوا "أحمد بن الحسين بن عبد الصمد الجعفي" أميراً عليهم دون منازع، ولرأيت بأم عينك النحوي "عبدالله بن خالويه" ينحني أمام المتنبي مقبلاً يديه، وهو يتمتم بأسف بالغ: أغفر لي أيها الكوفي العظيم حسدي ونميمتي، فالمفتاح الذي ضربتك به حتى سال دمك، أصاب مني مقتلاً، خاصة عندما سمعتك تقول: ويحك أيها ألأعجمي، لم يبقَ إلا أنت تخوض في العربية؟.
لقد عرّى "الباشا"، في دراسته هذه، حقبة تاريخية مهمة من كل أوراق التين التي سترت بها عورتها، رافضاً الكثير من ثرثرات باحثيها، ومنقحاً العديد من آراء نقادها، وها هو يقرّ: "أفضل لدي أن أقول: ان ميتة المتنبي كانت بكمين نصبه له الأعاجم، من أن أؤمن برواية فاتك وأمه الطرطبّة".
ولكي يزيدنا دهشة فوق دهشة يدعي "انهم انتحلوا قصيدة الهجاء المقذعة، وتداولها أهل ألدب، وكأنها من بداهة الأحداث". إذن، فمحمد زهير الباشا ينكر علينا معظم، ان لم أقل كل ما تعلمناه في مدارسنا عن المتنبي، ويدعونا الى التبصّر وتحليل جزئيات التاريخ لنصل الى الحقيقة، اذ أن المتنبي بنظره "لا يلتفت الى أمثال هؤلاء، ولا تتدنى كلماته الى حضيض من لؤم وسفاهة، فقد عاش فارساً ومات فارساً".
محتوى الكتاب قسّمه الباشا الى أبواب عديدة سرابية الصفحات، تبعد الملل وتشد الانتباه، منها:
ـ اهداء ودعاء:
وفيهما يتذكر تلك "النعمة" التي "ذاقت مرارة الطغيان، وما استسلمت لقدر الزبانية" فيقف على قبرها مردداً ما خطّته يدها قبل الرحيل:
اللهم اجعل ثأرنا على من ظلمنا
ولا تسلّط علينا من لا يرحمنا
ـ المتنبي أحمد بن الحسين
وعنه يقول:
"كان سابحاً في كل بحر
غرائبه جزر للهواة
متفوّقاً في قوله
السحر في نباهته
متقدماً في وقفته
لا يخشى الحسد
وتقتله السذاجة المفرطة
.. الى آخر لحظة رفع سيفه وشهامته
وما أظلمت الدنيا مرة
إلا وكان بريق شعره منارة".
لله درّك يا "باشا" على هذه الدرر الكلامية المثقلة بالبلاغة والإيجاز، والتي تحاكي بنبضاتها البيانية نبضات المتنبي.
ـ غزله: فراشة لونتها الطبيعة
وأعتقد أن هذا الباب هو الأهم في دراسة "الباشا" لأن المأخذ الوحيد على المتنبي هو قاّة غزله وبلقعيته، فإذا بنا نقرأ أن المتنبي "كان يفضّل البدوية على بنات الحضر، لحسنها وريح مسكها:
أين المعيز من الارام ناظرة
وغير ناظرة في الحسن والطيب
فنساء الحضر، يفسّر "الباشا"، كالمعيز، أما بنات البادية فكالارام ببياضهن، وحسنهن. والمتنبي في غزله البدوي يرغب بها بعيدة عن ألوان التصنّع:
افدي ظباء فلاة ما عرفن بها
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
فوالله، والله، لو جاء المتنبي في عصرنا الحاضر، وهذا رأيه "بالحضرية، ومضغ الكلام، وصبغ الحواجيب" لبقي عازباً الى أبد الآبدين.. آمين.
ما لنا وله.. لنعد الى غزله الرائع الذي بزّ عمر بن أبي ربيعة بأشواط:
شآمية طالما خلوت بها
تبصر في ناظري محيّاها
كل جريح ترجى سلامته
إلا فؤاداً رمته عيناها
تبل خدي كلما ابتسمت
من مطر برقة ثناياها
حيث التقى خدّها وتفاح
لبنان.. وثغري على حمياها
ألا تقول يا عزيزي محمد زهير الباشا ان ابيات المتنبي هذه أقرب الى العامية منها الى الفصحى، ولهذا حفظت أشعاره، وتناقلتها العامة جيلاً بعد جيل، وان وزارة الزراعة اللبنانية لو عرفت كيف تستغل دعاية شاعر الشعراء المجانية لتفاح لبنان، لما كسد موسم زراعي واحد.
أجمل ما في غزل المتنبي تلك الاباحية الجريئة في أيامه، الخجولة في أيامنا:
أزورهم وسواد الليا يشفع لي
وأنثني وبياض الصبح يغري بي
وأيضاً:
قبّلتها ودموعي مزج أدمعها
وقبّلتني على خوف فماً لفم
قد ذقت ماء في مقبّلها
لو صاب ترباً أحيا سالف الأمم
أجل، لقد أحيا شعر المتنبي، لا ماء مقبّلها، سالف الأمم، وسيحيي أمماً تترى، ما بقي للشعر "أنبياؤه" وللنقد "باشاواته" وللاثنين قراء ومعجبون.
العالم العربي، العدد 49، 31 آب 1993
**

ليست هناك تعليقات: